الدكتورة وفاء شعراني*
كيف تقدم كاتبا مثل الياس خوري ، بهذا السؤال بدأت انخراطي في ” إدارة ” الحوار لدى استضافة الكاتب حضورياً في طرابلس ، على منبر قصر نوفل / مركز رشيد كرامي الثقافي ،كنتُ أنوي البوح عمَّا انتابني عندما قرأته أول مرة ، ولكن أستدركت ، وقبل الإستفاضة قلتُ سريعاً كلمة عبّرتُ فيها عن حالةٍ ( لا اسم ) تهزّني كلما زرت هذا المكان ( قصر نوفل ) ، فلم ينتبه ، لها ، أحد !! طرابلس متروكة ، منسيّة ، معذَّبة ؟؟
كنت أريد ببساطةٍ القول بأنني بكيت كثيرا لدى قراءتي لأول مرة ” باب الشمس ” ثم أحاول الدخول إلى عالم الياس خوري الأدبي ، ولكن استدركتُ أيضاً : يجب أن أذكرَ مَن نكون ؟ : نادي ق ، بيت نكبرفيه مع عائشة يكن في صالون ثقافي salon litteraire ، يأتي نتيجة اقتناع دكتورة عائشة يكن بأن الثقافة لا يمكنها أن تبني صرحاً إلاّ بجهدٍ جماعيّ خلاّق ، وهي فكرةٌ تعضُد فكرة فناء الذات في الجماعة ؟ أم أنه مذاق الصالونات الأدبية يجذبني بقوة ، صالون ق ، النادي تاريخ جميل ، أذكرُ المفاجأة السارة التي كانت للعالم العربي يوماً مع كتاب جينيه عن فلسطين ، وجِد في حقيبتيه المتروكتين ، كتاب عن الشعب المطرود تتوجه «أربع ساعات في شاتيلا» ، عن تضحيات الفدائيين ، الأمر اليوم يشبه أمر ذلك اليوم ، فلسطين في طرابلس ، :كدتُ أنسى أنه عليَّ البدء بالحوار!!!
كان يجلس بجانبي ،المهم أنني لم أعد تلك المسحورة به كما كنت عندما قرأت له ، أول مرة ، ” باب الشمس ” ، تبدّلت علاقتي بنصّ الياس خور ي ، ما كان من أحد ٍمن كبار المشاهير الأوروبيين في الفكر والفلسفة والسينما إلاّ ويقرّ حق المناضلين من أجل نصرة القضايا العربية وعلى رأسها من غير منازع القضية الفلسطينية ، هو ، انتظر زمناً ، وكتب “باب الشمس ” .
خاصية سردية ، أسلوبٌ يخصُّه وحدُه ، يبقى في الذاكرة والوهم والكلام ، هل كان ينبغي له أن يكون مؤرّخاً ؟ تأريخٌ أمين ، المهمّ أن أحلام الاشتراكية انتهتْ ، ولم تعد الأحداث تترك لنا شيئاً ، إلا الحالة بين اليقين واللايقين ، الأدب العميق أسلوبٌ عجيب تُحكي فيه حكاية عجيبة ، لا تعرف عناصر بنيتها التركيبية إلا عن طريق ملاحقة المتكلم وكيفية أدائه لوظيفته ، فتاريخ ما يعرفه الناس ، ليس الوثيقة ، والتاريخ لمن يمتلك معرفة نبض الحب والمشاعر والشوق والفراق ، يحاذر الخروج بالكلمات ووصف الأحداث في المجازر إلى تجريدٍ ، يبدو لك أن الحوار في ” باب الشمس ” مع شخصية مرمية على سرير المستشفى في الجليل ، أنه ( السرد والحوار والأحداث ) نوعٌ من التحديق في ركام من العلامات ، إن تلخيص نص الياس خوري ضربٌ من المحال ، الحكم على مقدرةٍ ومعرفةٍ يقينية بكيفية الأداء وضبط رموزها المعقَّدة ، وماذا يعني هذا من أمر السينما ؟ تجلس إلى يسري نصرالله ، يأتيك بالحديث عن فردٍ بوصلاتٍ شفافة ، شاعرة ، الكلمات فيها قصائد ، كل الفقرات على تمفصلها من فكرة الى فكرة تبدو كمسرح عائم على نثرٍ موزون ، على ايقاع قوارير التراث والمؤانسة وليالي شهرزاد وآهات أم كلثوم ، ثم لا تلبث ، وأنت تتابع القراءة ، أن تتعاظم الهوية السردية الشخصية لتمتزج بالتجربة الانسانية حيث تتشكل في النص علامات لغوية عن معنى المعنى ، لم يهمل المرحلة الفلسطينية من الحروب اللبنانية ، واستباحة المجتمع اللبناني ، إذ نتحدث اليوم عن انتاج الياس خوري ينبغي متابعة ما يطفو على سطح الذاكرة ، وهو مخيف ، صعبٌ ، كارثةُ الانعزالية الطائفية ، كانوا في الجبل الصغير يسمعون صوت انهيارات البيوت على طول طريق الشام القديمة ، من أين لها أن تتبلور هوية قومية ؟؟
يستحيل ضبط حركة الانتقال من فكرة إلى فكرة ، تُفتح أقواس الصحافة كأصلٍ ثانٍ من أصول بنيان العمارة الإبداعية ، لقد تلاشى طيف الدولة ، ثم تمَّ تدمير ما بقي منها على يدِ الإحتلال الإسرائيلي …
على كلّ ما بين هذا وذاك ، نتحدث عن إنتاجك الأدبي ، الياس الخوري ..
أنطلق مما أسميه ” الفعل الإرادي ” أعتبره المدخل إلى نصك ، أمرٌ معقَّد ، لا يشبه شيء آخر ، النص الإلياسي ، نمطُ قصّ جديد ، يمكنكَ كل لحظة إيجاد شخصٍ ما في مكانٍ ما يخبرك بشئٍ ما ” فتبني له رواية بالفعل الإرادي ، وما هو ؟ هو استكمال تلك العناصرفي سياق السرد بعلاقة تاريخه بالوجود ، تنتبه ، في أثناء الإستكمال إلى تفاصيل التفاصيل ، في الحركة الجسدية ، أينما كان، في السرير والمطعم والشارع وأمام المحقق ، ثم تترك لنا تشريح سلوكه النفسي ، في ضعفه وقوته وانسياقاته ، قرّاؤك يعرفون معنى ذلك ، في الأكاديميا ينظّرون حول الفن الروائي والكتابة في قوالب التعبير عن المشاعر والذات والعالم ، فيؤكدون على أن امتزاج السرد بالتجربة الانسانية يصل بفن الكتابة إلى أقصى مبررات الكلام عن الحياة بوصفها بحثاً عن السرد .. إنها مقولة الأكاديميا ، ولن تستطيع محوَ بصمة الهوية الشخصية للسرد والسارد ، وكيف تتفلسف الهوية الشخصية بنسج عوالم برزخية بين الواقعي والتخييلي ..الرواية اذا لم تكن مخلصا فهي ، الرواية الكليّة ، التي تحيط بالواقع كله ، احد عناصر الخلاص .. إن نمط القصّ إنتاجٌ في قوالب التعبير عن المشاعر والذات والعالم ، وفي تدبيج أحداث بين شخصيات ، اكتسحت أسماؤها ساحات الأدب والسرد الروائي والشبكات والمنصات بمعاناةٍ وجودية ، ومن هنا يتأتى لها السحر .. في كل جهات النص ، يتموّج الحب والقص، كل نص يحوي حكاية ، وحكاية كبرى ، فلسطين ، فضاءيتسم بالتداخل .والتضارب والتفسخ والتشويه والحياة والحب والموت والجمال ، تجتمع في بنيتها خصائص الرواية الحديثة ، لا أدخل في تقييمها ، لست ناقدة أنا قارئة ، ولكن أعترف أنني بعد ملاحقتك إثر قراءة باب الشمس ، أحتفظ لك بسؤال عن مرحلتين : ما قبل باب الشمس وما بعد باب الشمس .. هل الرواية عالم الأماني والأحلام أم الأوهام ،
كيف والحروب مريعة وديكتاتورية الليبرالية تتضاعف ،1981 أبواب المدينة ، 1985 عن علاقات الدائرة ، 1989 رحلة غاندي الصغير ، 1994 مجمع الأسرار ، 1998 باب الشمس ، 2019 اسمي آدم ونجمة البحر ، 2003 الجبل الصغير والوجوه البيضاء ، 2007 رائحة الصابون ومملكة الغرباء ، 2012 يالو، سينالكول ، 2013 كأنها نائمة ، طاقات ضمائر متفلّتة ، عاشق حرّ ، يتحول سردا كيفما شاء ، من المتكلّم إلى المخاطَب ، الى الغائب ، يكاد يستولي أيضا على كافة ضمائر المتلقّي القارئ : لا تعرف مَن الذي يتحدث “رأى عينيها ، عيناها أرى ، أقول له عن عينيها ، أسألها : ( رائحة الصابون ) ويقطع المسافات في متواليات الزمن …
تتلاشى صورهم وهم يتكلمون ،كلهم ضحايا الحرب ، مُراوغة ؟ ؟ أم هو السرد بأسلوب المونتاج ، والكاميرا ، تُمسرح ، كان رجلاً وكرجل مشى إلى موته، رأى موته على مقربة من يديه، لكنه مشى، كان يمشي ويسأل ولم يجاوبه أحد، ثم وقف وصار يجاوبه، تحسبُهم أيقاظاً ، وهي ” كأنها نائمة ” ، فانتاستيك ، نهيلة مصدرُ هوى ، وميليا سكونٌ يشبه ركود الريح ، فانتاستيك غير منحول ، وغير مفتعَل ، يوقنُ الرجل أن المرأة وحبّها حفظا له طلبَ المتعةِ والموتِ معاً ، وهو لم يكن يعرف الأجوبة لكنه كان يجاوب.، قيل أنه احترق، وقيل أنه ذاب فوق القبر، وقيل، لكن المدينة التي أتى إليها من أمكنة بعيدة غابت. قيل أنها غارت في العيون، وقيل أنها ذهبت إلى البحر ، مشهدٌ على اللون الأبيض ، لون كاشف ، ضوء، يظهر كل العبث والفجيعة والجنون، فالله أرسل لنا البترول لنصبح أغني ، إنما البترول مرض.، ولولا البترول لتوقفت الحرب،
أنت لا تفهم، البترول يمول الحرب ،
نحن لا نفهم ، هم لا يفهمون ..
___________________
- أستاذة الفلسفة السابقة في الجامعة اللبنانية
- نص الكلمة التي ألقتها الدكتورة وفاء شعراني، خلال استضافة نادي “قاف” للكاتب الياس خوري، في مركز رشيد كرامي الثقافي ( قصر نوفل).